سورة البقرة - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


ولما كان من المعلوم أن هذا الخير الذي يفتر عنه ذو بصيرة ولا يقصر دونه من له أدنى همة إنما كان يذكر الله سبحانه وتعالى للعرب تفضلاً منه عليهم بعد طول الشقا وتمادي الجهل والجهد والعناء رغّبهم فيما يديم ذلك مسبباً له عما تقدم فقال: {فاذكروني} أي لأجل إنعامي عليكم بهذا وبغيره {أذكركم} فأفتح لكم من المعارف وأدفع عنكم من المخاوف ما لا يدخل تحت حد {واشكروا لي} وحدي من غير شريك تشركون معي أزدكم، وأكد هذه الإشارة بقوله: {ولا تكفرون} أي أسلبكم. قال الحرالي: ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ولوقائعهم ولأيامهم جعل سبحانه وتعالى ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون، كما جعل كتابه عوضاً من إشعارهم وهز عزائهم لذلك بما يسرهم به من ذكره لهم- انتهى.
ولما ختم الآيات الآمرة باستقبال البيت في الصلاة بالأمر بالشكر ومجانبة الكفر وكان ذلك رأس العبادة وفاعله شديد الافتقار إلى المعونة التفت إلى قوله تعالى في أم الكتاب: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] فأمرهم بما تضمن ذلك من الصبر والصلاة {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] عالماً بأنهم سيمتثلون حيث عصى بنو إسرائيل حين أمرهم بمثل ذلك في أول قصصهم بقوله: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43] إلى أن قال: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة: 45] فكان في ذلك إشارة إلى أنهم هم الخاشعون وحسن موقع هذه الآية كونها بعد أذى أهل الكتاب بنسبهم لهم إلى بطلان الدين بتغيير الأحكام ونحو ذلك من مُرّ الكلام كما في الآية الأخرى {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} [آل عمران: 186] وكونها عقب الأمر بالذكر والشكر إيماء إلى أن ملاك كل منهما الصبر والصلاة فكأنه قيل: لا تلتفتوا إلى طعن الطاعنين في أمر القبلة فيشغلكم ذلك عن ذكري وشكري بل اصبروا وصلوا إليّ متوجهين إلى القبلة التي أمرتكم بها عالمين أن الصبر والصلاة نعم العون على كل ما ينوب من دين ودنيا، وأرشق من هذا أن يقال: ولما علم من هذه الآيات إعضال ما بينهم وبين السفهاء وأمرهم بالدواء المنجح من الإعراض عنهم والإقبال على ذكره وشكره أتبع ذلك للإشارة إلى أن الأمر يصل إلى أشد مما توهموه فقال: {يا أيها الذين آمنوا} مخاطباً لهم على وجه يشمل الكامل صلى الله عليه وسلم ولعله صرف الخطاب عنه لما في السياق مما يحمي عنه صلى الله عليه وسلم مقامه العالي {استعينوا بالصبر} أي على ما تلقون منهم وعلى الإقبال إليّ لأكفيكم كل مهم {والصلاة} فإنها أكبر معين لأنها أجمع العبادات، فمن أقبل بها على مولاه حاطه وكفاه لإعراضه عن كل ما سواه، لأن ذلك شأن كل كبير فيمن أقبل بكليته عليه.
ولما كانت الصلاة لا تقوم إلا بالصبر اقتصر على التعليل به فقال: {إن الله} أي الذي له الكمال كله {مع الصابرين} أي ومعلوم أن من كان الله سبحانه وتعالى معه فاز. قال الحرالي: وأيسر الصبر صبر النفس عن كسلها بأخذها بالنشاط فيما كلفت به {لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق: 7] و{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] فمتى يسر الله سبحانه وتعالى عليها الجد والعزيمة جعل لها فيما كانت تصبر عليه في الابتداء الاستحلاء فيه وخفت عنها وظيفة الصبر، ومتى لم تصبر عن كسلها وعلى جدها تدنست فنالها عقوبات يكون الصبر عليها أشد من الصبر الأول، كما أن من صبر عن حلو الطعام لم يحتج أن يصبر على مر الدواء، فإن تحملت الصبر على عقوبات ضياع الصبر الأول تداركها نجاة من اشتداد العقوبة عليها، وإن لم تتصبر على تلك العقوبات وقعت في مهالك شدائد العذاب فقيل لأهلها {فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم} [الطور: 16] ثم قال: فبداية الدين صبر وخاتمته يسر، فإن من كان الله سبحانه وتعالى معه رفع عنه مرارة الصبر بوضع حلاوة الصحبة التي تشعر بها كلمة مع- انتهى.
ولما أشار لهم إلى ما يستقبلونه من حال الطاعنين في دينهم ورقاهم في ذلك درجة بعد درجة أتبعه ما دل على أن الأمر يصل إلى القتل وما داناه ليأخذوا لذلك أهبته ويعتدوا له عدته.
وقال الحرالي: ولما كان الصبر لله إنما هو حمل النفس على ما تعهد فيه كرهها أنبأهم الحق تعالى أن الصبر له ليس على المعهود وأنه يوجد فيه عند تجشمه حلاوة لذة الحياة وإن كان ذلك مما لا يناله شعور الذين آمنوا لخفائه عن إدراك المعقول فأنبأهم بما يحملهم على تجشم الصبر في الجهاد في سبيل الله فقال: {ولا تقولوا} عطفاً على متجاوز أمور تقتضيها بركة الجهاد- انتهى. أي وجاهدوهم لتقتلوهم ويقتلوكم وتسلبوهم ويسلبوكم ولا تقولوا، أو يقال: ولما كان الصبر واقعاً على أمور أشقها الجهاد ثم الحج ثم الصوم وكان بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قد سألوا عمن مات منهم على قبلة بيت المقدس فبين لهم ما صاروا إليه بقوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] تِلو آية الصبر بتبيين حال الشهداء المقتولين في الجهاد من المؤمنين دفعاً لظن أنهم أموات والتفاتاً إلى ما أشار به إلى صيرورة الأمر إلى الحرب حيث عاب المانعين للمسجد وأخبر بأنه سيحصل لهم خزي في الدنيا بالقتل والأسر وعذاب عظيم في الآخرة بالنار والسخط، وإيماء إلى أنه سيأذن لهم في مقارعة من أمرهم بالصبر على أذاهم من أهل الكتاب حتى يمحقهم السيف ويسكنهم الذل والخوف، فالمعنى: اصبروا على كل ما يقوله أهل الكتاب وغيرهم في أمر القبلة وغيره وعلى كل ما يغير به الشيطان في وجه الإيمان وصلوا إلى البيت الذي وجهتكم إليه وجاهدوا كل من خالفكم حتى يكون الدين لله صابرين على كل ما ينوب في ذلك من القتل والنهب وغيره ولا تقولوا إذا قاتلتم الكفار المناصبين لكم من العرب وغيرهم من أهل الكتاب وغيرهم {لمن يقتل} منكم {في سبيل الله} أي الذي له جميع صفات الكمال بأن يقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا لا لشيء غير ذلك من دنيا أو عصبية، فإنا سنكتب عليكم الجهاد، ونستشهد منكم شهداء: إنهم {أموات} بل قولوا: إنهم شهداء، فإنهم ليسوا بأموات {بل} هم {أحياء} وسيأتي في آل عمران أن ذلك معنى الشهيد.
قال الحرالي: فكأنه تعالى ينفي عن المجاهد مثال المكروه من كل وجه حتى في أن يقال عنه إنه ميت، فحماه من القول الذي هو عندهم من أشد غرض أنفسهم لاعتلاق أنفسهم بجميل الذكر، ثم قال وأبهم أمرهم في هذه السورة ونفى عنهم القول، لأن هذه سورة الكتاب المدعو به الخلق وصرح بتفضيله في آل عمران لأنها سورة قيام الله الذي به تجلى الحق فأظهر غيب أمره في سورة إظهار أمره وأخفاه في سورة ظاهر دعوتهم- انتهى.
ولما كان الحس قاصراً عما أخبر به سبحانه وتعالى قال منبهاً على ذلك {ولكن لا تشعرون} أنهم أحياء كما ترون النيام هموداً لا يتحركون ولا شعور لكم بمن فيهم ينظر، أحلاماً من غيره، فلا فخر أعظم من ذلك في الدنيا ولا عيش أرغد منه في الآخرة، وأما المقتول من أعدائكم فليس له في الدنيا إلا الخزي والفضيحة بالقهر والذل والهوان والعذاب الذي لا آخر له في الآخرة. قال الحرالي: قال ذلك نفياً بكلمة لا ومثال الدوام ففيه إعلام بأن الذين آمنوا ليس في رتبتهم الشعور به أصلاً إلا أن يرقيهم الله بنماء سن القلوب وصفاء الأنفس إلى ما فوق ذلك من سن المؤمنين إلى سن المحسنين الذين يشهدون من الغيب ما لا يشهده من في رتبة الذين آمنوا- انتهى. وفي هذا إشارة إلى أن كون الله معهم لا يمنع أن يستشهد منهم شهداء، بل ذلك من ثمرات كون الله معهم حيث يظفر من استشهد منهم بسعادة الأخرى ومن بقي بسعادة الدارين، وتلخيص ذلك أن يقال إنه لما كان حاصل ما تقدم في هذه السورة أن أهل الأرض كلهم قريبهم وبعيدهم وثنيهم وكتابيهم مطبقون على عداوة أهل هذا الدين وكان كثيراً ما يأمرهم بالصبر على أذاهم اشتد تشوّف النفوس إلى أنه هل بعد هذا الكف من فعل، فأشار إلى أنه سيأمر بعد الصبر على أذى اللسان بالصبر على جلاد السيف والسنان أمراً عاماً فقال عاطفاً هذا النهي على الأمر بالصبر، أي اصبروا الآن على هذا الأذى ثم اصبروا إذا أمرتكم بالجهاد على وقع السيوف واقتحام الحتوف وفقد من يقتل منكم ولا تصفوهم بالموت، ولعله فاجأهم بما تضمنته هذه الآية توطيناً لهم على القتل في سبيله وكان استشرافهم إلى الحرب قد كثر وبشرهم بأن القتيل فيه حي وإن رئي ميتاً تسلية لهم عن هذا الحادث العظيم والخطب الجسيم.
ولما كان من شأن الطين الذي منه البشر وما تولد منه أن لا يخلص عن الشوائب إلا بعد معاناة شديدة، ألا ترى أن الذهب أصفاه وهو لا يخلو عن الغش ولا يعرى عما خالطه من الدنس إلا بالامتحان بشديد النيران! قال تعالى معلماً لهم بالتربية بما تحصل به التصفية بما تؤدي إليه مناصبة الكفار ومقارعة أهل دار البوار: {ولنبلونكم} عطفاً على ما أرشد إليه التقدير من نحو قوله: فلنأمركم بمقارعة كل من أمرناكم من قبل بمجاملته وليتمالأن عليكم أهل الأرض ولنبلونكم أي يصيبكم بأشياء إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم ليظهر الصابر من الجزع. قال الحرالي: فالصبر الأول أي في {أن الله مع الصابرين} عن الكسل وعلى العمل، والصبر الثاني أي في {وبشر الصابرين} على مصائب الدنيا، فلذلك انتظم بهذه الآيات آية {ولنبونكم} عطفاً وتجاوزاً لأمور يؤخذ بها من لم يجاهد في سبيل الله ضعفاً عن صبر النفس عن كره القتال {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القتال وهو كره لكم} [البقرة: 216] فمن لم يحمل الصبر الأول على الجهاد أخذ بأمور هي بلايا في باطنه تجاوزها الخطاب فانعطف عليها {ولنبلونكم بشيء من الخوف} وهو حذر النفس من أمور ظاهرة تضرها {والجوع} وهو غلبة الحاجة إلى الغذاء على النفس حتى تترامى لأجله فيما لا تتأمل عاقبته، فإذا كان على غير غلبة مع حاجة فهو الغرث، فلذلك في الجوع بلاء مّا والغرث عادة جارية. وقال أيضاً: الجوع فراغ الجسم عما به قوامه كفراغ النفس عن الأمنة التي لها قوام مّا، فأفقدها القوامين في ذات نفسها بالخوف وفي بدنها بالجوع لما لم تصبر على كره الجهاد، وقد كان ذلك لأهل الصبر عليه أهون من الصبر على الخوف والجوع، وأيما كان أول نائلهم من هذا الابتلاء الخوف حيث خافوا الأعداء على أنفسهم فجاءهم إلى مواطنهم، من لم يمش إلى طبيبه ليستريح جاء الطبيب لهلاكه، وشتان بين خوف الغازي للعدو في عقره وبين خوف المحصر في أهله، وكذلك شتان بين أرزاق المجاهد وتزويده وخير الزاد التقوى في سبيله لجهاده وبين جوع المتخلف في عيلته- انتهى. ونكر الشيء وما بعده حثاً على الشكر بالإشارة إلى أن كل ما أصاب منها ففي قدرة الله ما هو أعظم منه، فعدم الإصابة به نعمة.
ولما كان الجوع قد يكون عن رياضة بين أنه عن حاجة بقوله: {ونقص} وهو التقاصر عن الكفاف {من الأموال} أي النعم التي كانت منها أغذيتهم. قال الحرالي: لأن ذلك عرف استعمالهم في لفظ المال. وقال أيضاً: والمال ما هو للمتمول بمنزلة الجزء منه عنده لماله لذلك منه، فضاعف تعالى مثال البلاء في ذوات أنفسهم وأبدانهم ليقطع عنهم راحة تطلع الكفاية من الأموال في مقابلة ما ينال المجاهد من الغناء والرزق، فالمجاهد آمن في جيشه متزود في رحله غانم من عدوه، والمتخلف خائف في أهله جائع في عيلته ناقص المال من ذات يده- انتهى.
ولما كان ذلك قد يكون عن إفراط في الكثرة قال: {والأنفس} قال الحرالي: فيه إشعار بأن من جاهد كثر عدده ونما ولده، وأن من تكاسل قل عدده ودرج خلفه، وفي ضمنه إشعار بمنال المتكاسل حواصد من جوارف الآجال من الوباء والطاعون وغيره- انتهى. وقال: {والثمرات} التي هي نفس الأشجار التي بها قوام أنفس الأبدان تخصيصاً لها بالذكر، لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم من أخص الناس بهذا الذكر لا سيما في وقت نزول هذه الآيات وهو أول زمان الهجرة.
ولما كان السياق مرشداً إلى أن التقدير: فأنذر من لم يصبر، ولكنه طوى إشارة إلى إجلال الذين آمنوا عن أن يكون فيهم من لم يصبر عطف عليه إرشاداً إليه وحثاً على الصبر ثم ذكر الموجبين للنصر قوله: {وبشر الصابرين} وقال الحرالي: ولما كان هذا البلاء عن تكاسل من الصبر الأول كما قال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11] وكان مما يتداركه صبر عليه تدارك تعالى هذه الرتبة ببشرى الصابرين من هلكه ما ينال من لم يصبر على هذه المصيبة وضجر منها وتسخط فيها، فكان للصابر الأول الصحبة بقوله: {إن الله مع الصابرين}.
ولما كان للصابر الثاني البشرى بالسلامة من عقوبة الآخرة ومنالهم لما نولهم وشتان بين من كان الله معه وبين من قيل لنبيه بشره بصبره على بلاء التخلف، وما كان للأنفس مدخل في تحمل الصبر شرفاً وحفيظة على الأحساب والرتب الدنيوية خلص تعالى الصابرين له من الصابرين تطبعاً وتحاملاً فقال: {الذين إذا أصابتهم} من الإصابة وهو وقوع المسدد على حد ما سدد له من موافق لغرض النفس أو مخالف لها {مصيبة} خصيصة عرف الاستعمال بما لا يوافق نكرها لخصوص ذكره- انتهى. والمراد أي مصيبة كانت ولو قلّت وضعفت بما أفهمه تأنيثه الفعل {قالوا إنا لله} أي الملك المحيط بكل شيء إسلاماً بأنفسهم لربهم فهو يفعل بنا من هذه المصيبة وغيرها ما يريد فهو المسؤول في أن يكون ذلك أصلح لنا.
ولما كان التقدير بياناً لكونهم لله تقريراً للاستسلام به: نحن مبتدئون، عطف عليه {وإنا إليه} أي لا إلى غيره {راجعون} معنى في أن جميع أمورنا لا يكون شيء منها إلا به وحساباً لبعث وظهور ذلك بعده ظهوراً تاماً. قال الحرالي: لتكون ذلك غاية في إسلام ثمراتهم وأموالهم وما نقصوا من أنفسهم، فحين لم يجاهدوا في سبيل الله فأصابتهم المصائب كان تلافيهم أن يسلموا أمرهم لله ويذكروا مرجعهم إليه ويشعروا أن ما أخذ من أنفسهم وما معها ذخيرة عنده، فيكون ذلك شاهد إيمانهم ورجائهم للقائهم فتقع مجاهدتهم لأنفسهم في ذلك بموقع جهادهم في سبيل الله الذي فاتهم وجعلها جامعة مطلقة لكل من أصابته مصيبة فاسترجع بها ثبت أجره بما أصيب وتلاقاه الله بالاهتداء إلى ما تقاصر عنه ذلك قال: {أولئك} خطاباً لنبيه واستحضاراً لهم بمحل بعد عن قربه وغيبة عن إقباله عليهم. قال: {عليهم صلوات} صلاة الله على عباده هي إقباله عليهم بعطفه إخراجاً لهم من حال ظلمة إلى رفعة نور، قال: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور} [الأحزاب: 43] فبصلاتهم عليهم إخراجهم من جهات ما أوقعهم في وجوه تلك الابتلاءات، فلذلك كان ذلك صلوات بالجمع ولم يكن صلاة ليعدد ما أصابهم منه عدد تلك الابتلاءات، وفي قوله تعالى: {من ربهم} إشعار بتدريجهم في ذلك بحكم تربية وتدارك الأحوال ما أصابهم، قال تعالى: {ورحمة} إفراد لمنالها لهم بعد متقدم الصلوات عليهم، فنالتهم الرحمة جمعاً حين أخرجتهم الصلوات أفراداً. قال تعالى: {وأولئك} إشارة إلى الذين نالتهم الصلوات والرحمة فأبقاهم مع ذلك في محل بعد في الحضرة وغيبة في الخطاب {هم المهتدون} فجاء بلفظ {هم} إشعاراً بصلاح بواطنهم عما جره الابتلاء من أنفسهم- انتهى. والذي يلوح لي أن أداة البعد في {أولئك} إشارة إلى علو مقامهم وعز مرامهم، ولذا عبر عن هدايتهم بالجملة الاسمية على وجه يفهم الحصر؛ والصلاة الإنعام بما يقتضي التشريف، والرحمة الإنعام بما يقتضي العطف والتَحنّن- والله سبحانه وتعالى الموفق؛ وفي ذلك إشارة إلى الأمر بالإعراض عن أهل الكتاب فيما يطعنون عليهم به بألسنتهم والإملاء لهم إلى حين الإذن في مطاعنتهم بالرماح ومصالتتهم ببيض الصفاح، كما في الآية الأخرى {لتبلون في أموالكم وأنفسكم} [الأعراف: 186] إلى آخرها ويمكن أن يراد بالخوف الجهاد. وبالجوع الصوم، وبنقص الأموال زكاة الصامت من المال، وبالأنفس زكاة الحيوان، وبالثمرات زكاتها؛ لكن الأنسب لافتتاح الآية واختتامها وما تقدمها وتلاها أن تكون مقصورة على الجهاد.
ولما فرغ مما أراد من أحوال الطاعنين في القبلة التي هي قيام للناس وما استتبع ذلك مما يضطره إليه في إقامة الدين من جدالهم وجلادهم وختم ذلك بالهدى شرع في ذكر ما كان البيت به قياماً للناس من المشاعر القائدة إلى كل خير الحامية عن كل ضير التي جعلت مواقفها أعلاماً على الساعة لا سيما والحج أخو الجهاد في المشقة والنزوح عن الوطن وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم أحد الجهادين مع أنه من أعظم مقاصد البيت المذكورة في هذه الآيات مناقبه المتلوة مآثره المنصوبة شعائره التي هي في الحقيقة دعائمه من الاعتكاف والصلاة والطواف المشار إلى حجه واعتماره بقوله:
{مثابة للناس وأمناً} [البقرة: 125] فأفصح به بعد تلك الإشارة بعض الإفصاح إذ كان لم يبق من مفاخره العظمى غيره وضم إليه العمرة الحج الأصغر لمشاركتها له في إظهار فخاره وإعلاء مناره فقال: {إن الصفا والمروة} فهو كالتعليل لاستحقاق البيت لأن يكون قبلة، وعرفهما لأنهما جبلان مخصومان معهودان تجاه الكعبة، اسم الصفا من الصفوة وهو ما يخلص من الكدر، واسم المروة من المرو وهو ما تحدد من الحجارة- قاله الحرالي. وخصهما هنا بالذكر إشارة إلى أن بركة الإقبال عليهما على ما شرع الله سبحانه وتعالى مفيدة لحياة القلوب بما أنزل على هذا الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة الباقيين إلى آخر الدهر شفاء للقلوب وزكاة للنفوس زيادة للنعمة بصفة الشكر وتعليماً بصفة العلم كما كان الإقبال على السعي بينهما تسليماً لأمر الله مفيداً لحياة أبيه إسماعيل عليه الصلاة والسلام ونفع من بعده بما أنبع له من ماء زمزم الباقي إلى قيام الساعة طعام طعم وشفاء سقم، وفي ذلك مع تقديم الصفا إشارة للبصراء من أرباب القلوب إلى أن الصابر لله المبشر فيما قبلها ينبغي أن يكون قلبه جامعاً بين الصلابة والصفا، فيكون بصلابته الحجرية مانعاً من القواطع الشيطانية، وبرقته الزجاجية جامعاً للوامع الرحمانية، بعيداً عن القلب المائي بصلابته، وعن الحجري بصفائه واستنارته. ومن أعظم المناسبات أيضاً كون سبيل الحج إذ ذاك كان ممنوعاً بأهل الحرب، فكأنها علة لما قبلها وكأنه قيل: ولنبلونكم بما ذكر لأن الحج من أعظم شعائر هذا البيت الذي أمرتم باستقباله وهو مما يفرض عليكم وسبيله ممنوع بمن تعلمون، فلنبلونكم بقتالهم لزوال مانع الحج وقتال غيرهم من أهل الكتاب وغيرهم لإتمام النعمة بتمام الدين وظهوره على كل دين. ومن أحسنها أيضاً أنه تعالى لما ذكر البلايا بنقص الأموال بسبب الذنوب {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] أتبعها الدواء الجابر لذلك النقص ديناً ودنيا، «فإن الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الذهب والفضة» رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن عبد الله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي أيضاً عن عدة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما بينته في كتابي الاطلاع على حجة الوداع.
وقال الحرالي: لما تقدم ذكر جامعة من أمر الحج في قوله سبحانه وتعالى {ولأتم نعمتي عليكم} [البقرة: 150] من حيث أن النعمة المضافة إليه أحق بنعمة الدين وفي ضمنها نعمة الدنيا التي لم يتهيأ الحج إلا بها من الفتح والنصر والاستيلاء على كافة العرب كما قال تعالى فيما أنزل يوم تمام الحج الذي هو يوم عرفة {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3] وذلك بما أتم الله سبحانه وتعالى عليهم من نعمة تمام معالم الدين وتأسيس الفتح بفتح أم القرى التي في فتحها فتح جميع الأرض لأنها قيام الناس نظم تعالى بما تلاه من الخطاب تفصيلاً من تفاصيل أمر الحج انتظم بأمر الذين آمنوا من حيث ما في سبب إنزاله من التحرج للذين أعلموا برفع الجناح عنهم وهم طائفة من الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد فتحرجوا من التطوف بين الصفا والمروة. وطائفة أيضاً خافوا أن يلحقهم في الإسلام بعملهم نحو ما كانوا يعملونه في الجاهلية نقص في عمل الإسلام، فأعلمهم الله سبحانه وتعالى أن ذلك موضوع عنهم لمختلف نياتهم فإن الأعمال بالنيات، فما نوي لله كان لله ولم يُبل فيه بموافقة ما كان من عاداتهم في الجاهلية، وفي فقهه صحة السجود لله سبحانه وتعالى لمن أكره على السجود للصنم، وفي طي ذلك صحة التعبد لله بكلمة الكفر لمن أكره عليها، أذن صلى الله عليه وسلم غير مرة في أن يقول فيه قائل ما يوافق الكفار بحسن نية للقائل فيه ذلك ولقضاء حاجة له من حوائح دنياه عند الكفار، فظهر بذلك كونه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، يقبل الضمائر ولا يبالي بالظواهر في أحوال الضرائر، فرفع الله سبحانه وتعالى عنهم الجناح بحسن نياتهم وإخلاصهم لله سبحانه وتعالى عملهم، فبهذا النحو من التقاصر في هذه الرتبة انتظم افتتاح هذا الخطاب بما قبله من أحوال الذين آمنوا من المبتلين بما ذكر- انتهى. {من شعائر الله} أي أعلام دين الملك الأعلى الذي دان كل شيء لجلاله. وقال الحرالي: وهي أي الشعائر ما أحست به القلوب من حقه، وقال: والشعيرة ما شعرت به القلوب من أمور باطنة {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج: 32] وإنما ذكرها تعالى بالشعائر وعملها معلم من معالم الإسلام وحرمة من حرم الله لما كان حكم في أمر القلوب التي كان في ضمائرها تحرجهم فمن حيث ذكرها بالشعيرة صححها الإخلاص والنية {فمن حج} من الحج وهو ترداد القصد إلى ما يراد خيره وبره. وقال الأصفهاني: أصله زيادة شيء تعظمه- انتهى. {البيت} ذكر البيت في الحج والمسجد الحرام في التوجه لانتهاء الطواف إلى البيت واتساع المصلى من حد المقام إلى ما وراءه لكون الطائف منتهياً إلى البيت وكون المصلي قائماً بمحل أدب يؤخره عن منتهى الطائف مداناة البيت، وذكره تعالى بكلمة من المطلقة المستغرقة لأولي العقل تنكباً بالخطاب عن خصوص المتحرجين، ففي إطلاقه إشعار بأن الحج لا يمنعه شيء مما يعرض في مواطنه من مكروه الدين لاشتغال الحاج بما هو فيه عما سواه، ففي خفي فقهه إعراض الحاج عن مناكر تلك المواطن التي تعرض فيها بحسب الأزمان والأعصار، ويؤكد ذلك أن الحج آية الحشر وأهل الحشر {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 37] فكذلك حكم ما هو آيته؛ وحج البيت إتيانه في خاتمة السنة من الشهور الذي هو شهر ذي الحجة أنه ختم العمر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم حيث ختم الله سبحانه وتعالى عمره بعمل الحج؛ قال سبحانه وتعالى {أو اعتمر} فذكر العمرة مع الحج لما كان الطواف بين الصفا والمروة من شعائر العملين {فلا جناح} وهو المؤاخذة على الجنوح، والجنوح الميل عن جادة القصد- انتهى {عليه أن يطوف} أي يدور بهمة وتعمد ونشاط {بهما} بادياً بما بدأ الله. قال الحرالي: رفع الجناح عن لفعل حكم يشترك فيه الجائز والواجب والفرض والمباح حتى يصح أن يقال: لا جناح عليك أن تصلي الظهر، كما يقال: لا جناح عليك أن تطعم إذا جعت؛ وإنما يشعر بالجواز والتخيير نفي الجناح عن الترك لا عن الفعل، كما قال عليه الصلاة والسلام للذين سألوه عن العزل: «لا جناح عليكم أن لا تفعلوا» أي أن لا تُنزلوا، لأن الفعل كناية عن الثبوت لا عن الترك الذي هو معنى العزل، وهو الذي قررته عائشة رضي الله تعالى عنها لما قال عروة: ما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما، فقالت: لو كان كما تقول كان: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما الحديث. قلت: ولعل التعبير بالنفي إنما اختير ليدل على نفي ما توهموه بالمطابقة، وتقع الدلالة على الوجوب بإفهام الجزاء لأن من حج أو اعتمر ولم يتطوف بهما كان عليه حرج، وبالسنة التي بينته من قوله صلى الله عليه وسلم: «اسعوا فإن الله قد كتب عليكم السعي» ومن فعله صلى الله عليه وسلم مع قوله: «خذوا عني مناسككم» ومن عدهما من الشعائر ونحو ذلك. قال الحرالي: وما روي من قراءة من قرأ {أن لا يطوف بهما} فليست {لا} نافية على حد ما نفت معناه عائشة رضي الله تعالى عنها وإنما هي مؤكدة للإثبات بمنزلة {ما منعك ألا تسجد} [الأعراف: 12] و{لئلا يعلم أهل الكتاب} [الحديد: 29] لأن من تمام المبهم استعماله في المتقابلين من النفي والإثبات كاستعماله في وجوه من التقابل كما تستعمل {ما} في النفي والإثبات، وكذلك جاءت لا في لسان العرب بمنزلتها في الاستعمال وإن كان دون ذلك في الشهرة، فوارد القرآن معتبر بأعلى رتبة لغة العرب وأفصحها، لا يصل إلى تصحيح عربيته من اقتصر من النحو والأدب على ما دون الغاية لعلوه في رتبة العربية {إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} [الزخرف: 2] انتهى. والذين قرؤوا بزيادة {لا} عليّ وابن عباس- بخلاف عنه- وأبي بن كعب وابن مسعود وأنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وميمون بن مهران، كما نقل ذلك الإمام أبو الفتح عثمان بن جني في كتابه المحتسب في توجيه القراءات- الشواذ؛ ومعنى قول عائشة رضي الله تعالى عنها لكان أن لا يطوف خاصة، ولم ترد قراءة بالإثبات؛ وأما مع قراءة الإثبات فإن المعنى يرشد إلى أن قراءة النفي مثلها، لأن كونهما من الشعائر يقتضي التطوف بهما لا إهمالهما- والله سبحانه وتعالى أعلم. قال الحرالي: وذكره تعالى بالتطوف الذي هو تفعّل أي تشبه بالطواف، ومع البيت بالطواف في قوله تعالى: {أن طهرا بيتي للطائفين} [البقرة: 125] لما كان السعي تردداً في طول، والمراد الإحاطة بهما، فكان في المعنى كالطواف لا في الصورة، فجعله لذلك تطوفاً أي تشبهاً بالطواف- انتهى.
ولما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يقصدوا بترك الطواف بينهما إلا الطاعة فأعلموا أن الطواف بينهما طاعة، عبر بما يفيد مدحهم فقال تعالى: {ومن تطوع} قَالَ الحرالي: أي كلف نفسه معاهدة البر والخير من غير استدعاء له {خيراً} فيه إعلام بفضيلة النفقة في الحج والعمرة بالهدي ووجوه المرافق للرفقاء بما يفهمه لفظ الخير، لأن عرف استعماله في خير الرزق والنفقة، كما قال تعالى: {وإنه لحب الخير لشديد} [العاديات: 8] و{إن ترك خيراً} [البقرة: 180]؛ ولما كان رفع الجناح تركاً عادلها في الخطاب بإثبات عمل خير ليقع في الخطاب إثبات يفيد عملاً حين لم يفد الأول إلا تركاً، فمن تحقق بالإيمان أجزل نفقاته في الوفادة على ربه واختصر في أغراض نفسه، ومن حرم النصف من دنياه اقتصر في نفقاته في وفادته على ربه وأجزل نفقاته في أغراض نفسه وشهوات عياله، فذلك من أعلام المؤمنين وأعلام الجاهلين، من وفد على الملك أجزل ما يقدم بين يديه، وإنما قدمه بالحقيقة لنفسه لا لربه، فمن شكر نعمة الله بإظهارها حين الوفادة، عليه في آية بعثة إليه ولقائه له شكراً لله له ذلك يوم يلقاه، فكانت هدايا الله له يوم القيامة أعظم من هديه إليه يوم الوفادة عليه في حجه وعمرته {فإن الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {شاكر} أي مجاز بالأعمال مع المضاعفة لثوابها؛ قال الحرالي: وقوله: {عليم} فيه تحذير من مداخل الرياء والسمعة في إجزال النفقات لما يغلب على النفس من التباهي في إظهار الخير- انتهى.
ولما تقدم أن بعض أهل الكتاب يكتمون ما يعلمون من هذا لحق وختم ما اتبعه له بصفتي الشكر والعلم ترغيباً وترهيباً بأنه يشكر من فعل ما شرعه له ويعلم من أخفاه وإن دق فعله وبالغ في كتمانه انعطف الكلام إلى تبكيت المنافقين منهم والمصارحين في لعنهم على كتمانهم ما يعلمون من الحق إذ كانت هذه كلها في الحقيقة قصصهم والخروج إلى غيرها إنما هو استطراد على الأسلوب الحكيم المبين لأن هذا الكتاب هدى وكان السياق مرشداً إلى أن التقدير بعد {شاكر عليم} ومن أحدث شراً فإن الله عليم قدير، فوصل به استئنافاً قوله على وجه يعمهم وغيرهم: {إن الذين يكتمون} بياناً لجزائهم {ما أنزلنا} أي بعظمتنا. قال الحرالي: فانتظمت هذه الآية أي في ختمها لهذا الخطاب بما مضى في أوله من قوله: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} [البقرة: 42] فكانت البداية خاصة وكان الختم عاماً، ليكون ما في كتاب الله أمراً على نحو ما كان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ومن تقدمه من الرسل خلقاً لينطبق الأمر على الخلق بدءاً وختماً انطباقاً واحداً، فعم كل كاتم من الأولين والآخرين- انتهى {من البينات} أي التي لا يحتاج سامعها المجرد عن الهوى في فهمها إلى شيء معها. قال الحرالي: ففي إفهامه إذن في كتم ما يخفى من العلم عن عقول لم تصل إليه- انتهى. {والهدى} أي الذي من شأنه أن يقود من أحبه إلى صراط مستقيم.
ولما كان المراد الترهيب من الكتمان في وقت ما ولو قل أثبت الجار فقال: {من بعد ما بيناه} أي بما لنا من العظمة {للناس} أي الذين هم في أدنى طبقات المخاطبين، وفيه تبكيت عظيم لبني إسرائيل فإنهم من أعظم المقصودين بذلك لكتمانهم ما عندهم. قال الحرالي: لأن المسمين بالناس من أصاغر سن القلوب لما ذكر من نوسهم وأكثر ما يخص به كما تقدم الملوك ورؤساء القبائل وأتباعهم الذين زين لهم حب الشهوات- انتهى. {في الكتاب} أي الجامع لكل خير قال الحرالي: فما بينه الله سبحانه وتعالى في الكتاب لا يحل كتمه، لما ذكر من أن الكتاب هو ما احتوى على الأحكام والحدود بخلاف ما يختص بالفرقان أو يعلو إلى رتبة القرآن انتهى.
ولما كان المضارع دالاً على التجديد المستمر وكان الإصرار المتصل بالموت دالاً على سوء الجبلة أسقط فاء السبب إشارة إلى استحقاقهم للخزي في نفس الأمر من غير نظر إلى سبب فقال: {أولئك} أي البعداء البغضاء {يلعنهم الله} أي يطردهم الملك الأعظم طرد خزي وذل {ويلعنهم اللاعنون} أي كل من يصح منه لعن؛ أي هم متهيؤن لذلك ثم يقع لهم ذلك بالفعل عند كشف الغطاء، واللعن إسقاط الشيء إلى أردى محاله حتى يكون في الرتبة بمنزلة الفعل من العامة- قاله الحرالي: وأخص من ذلك وأسهل تناولاً أن يقال: لما كان أشق الصبر ما على فقد المحبوب من الألف والأمن والسعة وكان العلم واقعاً بأن عداوة الكفار لهم ستؤول إلى ابتلائهم بذلك أتبع آية الصبر بقوله: {ولا تقولوا} الآيتين فكأنه قيل: ولا تقولوا كذا فليكتبن عليكم الجهاد عموماً {ولنبلونكم} فيه {بشيء من الخوف} الآية لأن الصفا والمروة من شعائر الله ووصولكم إليهما ممنوع بالكفار فلا بد في الفتح من قتالهم وقد جرت العادة في القتال بمثل ذلك البلاء.


ولما تم أمر القبلة وما استتبعه وختم بشريعة الحج المكتوبة على الناس عامة الأمر لهم بها باني البيت إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن أمر الله سبحانه وتعالى بقوله إذ قام المقام: يا أيها الناس! كتب عليكم الحج فحجوا، فأجابه من علم الله سبحانه وتعالى أنه يحج ثم حجت الأنبياء من بني إسرائيل بن إبراهيم عليهما السلام ثم أخفاها أهل الكتاب فيما أخفوه من كتابهم حسداً للعرب وختمت آية الحج بعليم رجع إلى أمر الكاتمين الذين يكتمون الحق وهم يعلمون، وأعظم ما كتموه أمر هذا الكتاب الذي هو الهدى المفتتح به السورة، ولما بين جزاءهم استثنى منهم التائبين مبيناً لشرائط التوبة الثلاثة فقال: {إلا الذين تابوا} بالندم على ارتكاب الذنب {وأصلحوا} بالعزم على عدم العود {وبينوا} ما كانوا كتموه فظهرت توبتهم بالإقلاع.
ولما كان الإنسان يحب ما كان بسبب منه رغبهم في المتاب بعد توبتهم سبباً لتوبته ورحمته وإن كان ذلك كله مَنّاً منه في نفس الأمر فقال معبراً بالفاء: {فأولئك} العالو الرتبة {أتوب عليهم} أي أقبل توبتهم فأحفظهم بما يشعر به مثال الفعل الدائم فيما وفقتهم لابتدائه، وفي الربط بالفاء إشارة إلى إسراع استنقاذ توبة الله عليهم من نار الخوف والندم رحمة منه لهم برفعهم إلى موطن الإنس، لأن نار الخوف في الدنيا للمقترف رحمة من عذاب النار تفديه من نار السطوة في الآخرة، من لم يحترق بنار المجاهدة أحرقته نار الخوف، فمن لم يحترق بنار الخوف أحرقته نار السطوة- أفاده الحرالي. ولما كان من شأن الإنسان معاودة الذنوب لصفة النسيان ختم الآية بما دل على أن التقدير: فإني أحب التوابين فقال: {وأنا التواب} أي مرة بعد مرة لمن كر على الذنب ثم راجع التوبة كرة إثر كرة {الرحيم} لمن فعل ما يرضيني.
ولما لعن الكاتمين واستثنى منهم التائبين ذكر المصرّين معبراً عن كتمانهم بالكفر لتعم العبارة كل كفر فقال: {إن الذين كفروا} أي بهذا الكتمان وغيره {وماتوا وهم كفار} قال الحرالي: ففي إشعاره يسر توبة الكافرين وعسر توبة المنافقين من حيث صرح بذكر توبة الكاتم وتجاوز في الذكر توبة الكافر، فكان الذين كفروا يتوبون إلا الأقل والذين يكتمون يتمادون إلا الأقل، فلذلك وقع الاستثناء في الكاتم والتخصيص من الكافر- انتهى.
ولما كان الموت على شيء دالاً على أصل الجبلة فالميت كافراً مجبول جبلة شر بيّن سبحانه وتعالى أنه مستحق في نفس الأمر لكل خزي لذلك لا لسبب جدده، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، لأنه سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل، فأسقط فاء السبب وعبر عنهم بأداة البعد إشارة إلى طردهم فقال: {أولئك} الذين هم في غاية السفول {عليهم لعنة الله} أي طرد الملك الذي لا ملك سواه وإبعاده، ثم بين اللاعنين في التي قبلها فقال: {والملائكة والناس أجمعين} أي هم أهل لذلك وكل أحد يلعن الظالم وأظلم الظالمين الكافر {خالدين فيها} أي اللعنة.
ولما كان اللعن دالاً على العذاب صرح به فقال: {لا يخفف عنهم العذاب} لاستعلاء اللعن عليهم وإحاطته بهم. وقال الحرالي: ذكر وصف العذاب بذكر ما لزمهم من اللعنة ليجمع لهم بين العقابين: عقاباً من الوصف وعقاباً من الفعل، كما يكون لمن يقابله نعيم ورضى- انتهى. {ولا هم ينظرون} قال الحرالي: من النظرة وهو التأخير المرتقب نجازه فالمعنى أنهم لا يمهلون من ممهل ما أصلاً كما يمهلون في الدنيا- بل يقع عليهم العذاب حال فراقهم للحياة ثم لا يخفف عنهم. قال الحرالي: ففيه إشعار بطائفة أي من عصاة المؤمنين يؤخر عذابهم، وفي مقابلة علم الجزاء بأحوال أهل الدنيا تصنيفهم بأصناف في اقتراف السوء، فمن داومه داومه العذاب ومن أخره وقتاً ما في دنياه أخر عنه العذاب، ومن تزايد فيه تزايد عذابه، وذلك لكون الدنيا مزرعة الآخرة وأن الجزاء بحسب الوصف {سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم} [الأنعام: 136] انتهى.
ولما أفاض عليهم سبحانه وتعالى ما أفاض من بحار الحجاج المفرقة بالأمواج وقرر ما أراد من شرائع الإسلام على وجه الإتقان والإحكام وأرشد هذا السياق المذكور فيه ثواب المطيع وعقاب العاصي إلى أن التقدير: فإلهكم إله واحد لا شريك له يدافعه عما يريد لا إله إلا هو المنتقم من أعدائه العظيم في كبريائه، عطف عليه مكرراً الزاجر لكل منافق وكافر ومذكراً بالعاطف لكل موافق مؤالف قوله تعالى: {وإلهكم} ولما كان المراد أن الوحدة معتبرة في نفس الأمر في الإله الحق، فلا يصح أصلاً أن يكون الإله الحق منقسماً بالنوع ولا بالشخص ولا بالوصف ولا بالفعل ولا بغير ذلك بوجه من الوجوه أعاد لفظ الإله فقال: {إله واحد} أي لا ينقسم بوجه من الوجوه لا بمجانسة ولا بغيرها وهو مع ذلك {لا إله إلا هو} فهذا تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته فلا يصح بوجه ولا يمكن في عقل أن يصلح للإلهية غيره أصلاً فلا يستحق العبادة إلا هو لأنه {الرحمن} أي العام الرحمة بالنعم الزائلة لأوليائه وأعدائه {الرحيم} أي المخصص بالنعم الباقية لأوليائه، فثبت بالتفرد بالألوهية أنه حائز بجميع العظمة وبيده مجامع الكبرياء والقهر، وبوصفي الرحمة أنه مفيض لجلائل النعم ودقائقها فكل ما سواه إما نعمة أو منعم عليه، فهو المخشي سطوته المرجو رحمته يغفر لمن يشاء ويلعن من كفر ويخلده في العذاب من غير أن يقدر غيره أن يعترض عليه في شيء من ذلك؛ ولا يبعد عندي وإن بعد المدى أن تكون الواو في قوله: {وإلهكم} عاطفة على قوله في أوائل السورة: {وهو بكل شيء عليم} [البقرة: 29] قبل قوله: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] فإن التوحيد هو المقصود بالذات وعنه تنشأ جميع العبادات، فلما قال أولاً {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] أتبعه في قوله: {الذي خلقكم} [البقرة: 21] إلى آخره بوصف هو دليل استحقاقه للعبادة، فلما قام الدليل قال: {فلا تجعلوا لله أنداداً} [البقرة: 22] إعلاماً بأنه لا شريك له في العبادة كما أنه قد تبين أنه لا شريك له في الخلق، ثم أتبعه بما يليق لذلك المقام مما تقدم التنبيه عليه، ثم رجع إليه قائلاً ثانياً {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم} [البقرة: 28] إلى آخرها فأعاد الدليل على وجه أبين من الأول وأبسط، فلما تقرر على وجه لا مطعن فيه أمر الوحدانية والإعادة كان الأنسب ما أولاه من الآيات السابقة لما ذكر فيها من غير ذلك من المهمات إلى أن صار إلى ذكر الكاتمين والتائبين والمصرين وذكر ما أعد لكل من الجزاء فأتبع ذلك هذه الآية عاطفاً لها على ما ذكرته على وجه أصرح مما تقدم في إثبات التوحيد بياناً لما هو الحق وإشارة إلى أنه تعالى ليس كملوك الدنيا الذين قد يحول بينهم وبين إثابة بعض الطائعين وعقوبة بعض العاصين بعض أتباعهم، فإنه واحد لا كفؤ له بل ولا مداني فلا مانع لنفوذ أمره؛ ولا يستنكر تجويز هذا العطف لأنه جرت عادة البلغاء أن أحدهم إذا أراد إقامة الحج على شيء لأمر يرتبه عليه أن يبدأ بدليل كاف ثم يتبعه تقريب الثمرات المجتناة منه ثم يعود إلى تأكيده على وجه آخر لتأنس به النفوس وتسرّ به القلوب، وربما كان الدليل طويل الذيول كثير الشعب، فيشرح كل ما يحتاج إليه من ذيوله وما يستتبعه من شعبه، فإذا استوفى ذلك ورأى أن الخصم لم يصل إلى غاية الإذعان أعاد له الدليل على وجه آخر عاطفاً له على الوجوه الأول تذكيراً بما ليس بمستنكر ذلك في مجاري عاداتهم ومباني خطاباتهم؛ ومن تأمل مناظرات الباقلاني وأضرابه من أولي الحفظ الواسع والتبحر في العلم علم ذلك وقال الحرالي: ولما كان مضمون الكتاب دعوة الخلق إلى الحق، والتعريف بحق الحق على الخلق، وإظهار مزايا من اصطفاه الله تعالى ممن شملهم أصل الإيمان من ملائكته وأنبيائه ورسله ومن يلحق بهم من أهل ولايتهم، وإظهار شواهد ذلك منهم وإقامة الحجة بذلك على من دونهم في إلزامهم أتباعهم، وكان الضار للخلق إنما هو الشتات كان النافع لهم إنما هو الوحدة، فلما أظهر لهم تعالى مرجعهم إلى وحدة أبوة آدم عليه الصلاة والسلام في جمع الذرية ووحدة أبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في جمع الإسلام ووحدة أحمدية محمد صلى الله عليه وسلم في جمع الدين فاتضح لهم عيب الشتات والتفرق وتحقق لهم شاهد النفع في الجمع إلى وحدات كان ذلك آية على أعظم الانتفاع بالرجوع إلى وحدة الإلهية في أمر الحق وفي إفهام ذلك وحدات ما يظن في ظاهر الوحدات الظاهرة من وحدة الروح ووحدة النفس والعقل فقال تعالى عطفاً على ما ظهر بناؤه من الوحدات الظاهرة وما أفاده إفهامها من الوحدات الباطنة: {وإلهكم إله واحد} فإذا قبح الشتات مع وحدة الأب الوالد فكيف به مع وحدة الأب المدّين! فكيف به مع وحدة النبي المكمل! فكيف به مع وحدة الإله الذي هو الرحمن الذي شمل خلقه رحمانية! الرحيم الذي اختص أولياءه وأصفياءه عناية فجمعهم بوحدته التي هي قائم كل وحدة دونه! فجميع أسمائه لها وحدة تنتهي وحدتها إلى وحدة الإله الذي انتهى إليه الإله وهو تعبد الظاهر لإلجاء المتعبد إليه في كل حاجاته وإقاماته الظاهرة والباطنة، ولا أتم من وحدة ما لا يتصوره العقل ولا يدركه الحس في علو وحدة الغيب الذي لا يبدو فيه ذات فيكون لها أو فيها كميات ولا كيفيات؛ ثم قال: وقد صح بالتجربة أن الراحة في حصبة الواحد وأن التعب في اتباع العدد لاختصاص كل واحد بقصد في التابع يتشاكس عليه لذلك حال اتباعهم، فكان أعظم دعوة إلى جمع الخلق دعوتهم إلى جمع توحيد الإلهية انتظاماً بما دعوا إليه من الاجتماع في اسم الربوبية في قوله تعالى متقدماً: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] فإعلاء الخطاب من رتبة الربوبية إلى رتبة هذه الدعوة بالإلهية لتعلو من هذا الحد إلى الدعوة إلى الله الأحد الذي أحديته مركوزة في كافة فطر الخلق وجبلاتهم حين لم يقع الشرك فيه بوجه وإنما وقع في رتبة الإلهية، فكان هذا أوسط الدعوة بالاجتماع في وحدة الإلهية وفي إضافة اسم الإله إليهم أتم تنزل بمقدار معقولهم من تعبدهم الذي هو تألّههم؛ ولما كان في الإلهية دعوى كثرة توهم الضلال المبين أتبع ذلك بكلمة التوحيد بناء على اسمه المضمر في باطن ظاهر الإلهية فقال تعالى: {لا إله إلا هو} رداً على إضمار ما في الأول ولم يذكر اسمه المظهر ليكون للدعوة إليه رتبة عالية تكون هذه متوقلاً إليها، ولما كان هذا التوحيد الإلهي أمر غيب من الإله أظهره سبحانه وتعالى بمظهر الرحمانية المحيطة الشاملة والرحيمية الاختصاصية لما عند الخلق من شاهد ذلك فيما يجدونه من أثر الرحمانية في دنياهم وآثارهم وما يجدون من آثار الرحيمية في اختصاصهم المزية في تضاعف رحمته، فكان في مجموع هذه الآية أعظمية من غيب الإلهية إلى تمام اختصاص الرحيمية، فلذلك كانت هذه الآية مع آية الإحاطة في أول آل عمران الجامعة لمقابلة ما في هذه الآية من خصوص الرحيمية مع خصوص مقابلها من وصف الانتقام الظاهر عن وصف العزة الذي أبداه قوله سبحانه وتعالى:
{والله عزيز ذو انتقام} [آل عمران: 4] فكانت هذه الآية لذلك مع {الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [آل عمران: 1-2] اسم الله الأعظم المحيط بالغيب والشهادة جمعاً للرحمة والنقمة في الظاهر وإحاطة عظمة في الباطن، فكان هذا الحد من علو الخطاب ابتداء رفع الخلق إلى التعلق باسم الله الأعظم الذي يرفعهم عن سفل تقيدهم بأنفسهم المحقّرة إظهاراً لمبدأ العناية بهذه الأمة الخاتمة- انتهى.
ولما كان هذا المقام لا يصح إلا بتمام العلم وكمال القدرة نصب الأدلة على ذلك في هذه الآية الثالثة بأبسط مما في الآية الثانية كما كانت الثانية أبسط من الأولى وأجلى تبصيراً للجهال وتذكيراً للعلماء؛ فكانت هذه الآية تفصيلاً لتينك الآيتين السابقتين ولم تدع حاجة إلى مثل هذه التفصيل في آية آل عمران، لأن معظم المراد بها الدلالة على شمول القدرة وأما هذه فدليل على التفرد، فكان لا بد من ذكر ما ربما أضيف إلى أسبابه القريبة تنبيهاً على أنه لا شريك له في شيء من ذلك وأن الكل بخلقه وإن أقام لذلك أسباباً ظاهرية فقال تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض} أي واختلافهما فإن خلق ما ذكر في الآية من نعمته على عباده كما ذكر في أول السورة، ثم ذكر ما ينشأ عنهما فقال: {واختلاف} وهو افتعال من الخلف، وهو ما يقع من افتراق بعد اجتماع في أمر من الأمور {الليل} قدمه لأنه الأصل والأقدم {وآية لهم الّليل} [يس: 37] {والنهار} وخلقهما، فالآية من الاحتباك، ذكر الخلق أولاً دليلاً على حذفه ثانياً والاختلاف ثانياً على حذفه أولاً. وقال الحرالي: ولما كان من سنة الله أن من دعاه إليه وإلى رسله بشاهد خرق عادة في خلق أو أمر عاجله بالعقوبة في الدنيا وجدد بعده أمة أخرى كما قال سبحانه وتعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} [الإسراء: 59] وكانت هذه الأمة خاتمة ليس بعدها أمة غيرها أعفاها ربها من احتياجها إلى خرق العوائد، قال عليه الصلاة والسلام «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله أمن عليه البشر، وإنما كان الذي آتاني الله وحياً أوحاه الله سبحانه وتعالى إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً» فكان أمر الاعتبار أعم إجابة وأسمح مخالفة وكفاها بما قد أظهره لها في خلقه بالإبداء والتسخير من الشواهد، ليكونوا علماء منقادين لروح العلم لا لسلطان القهر، فيكون ذلك من مزاياهم على غيرهم، ولم يجبها إلى ما سألته من ذلك، فلما وصل تعالى بدعوة الربوبية ذِكر الخلق والرزق وذكر الأرض بأنها فراش والسماء بأنها بناء على عادة العرب في رتبة حس ظاهر أعلاهم في هذا الخطاب بإيراد آياته وشواهده على علو رتبة معنى معقول فوق رتبة الأمر المحسوس السابق فقال: {إن في خلق السماوات والأرض} خطاباً مع من له نظر عقلي يزيد على نظر الحس باعتبار السماوات أفلاكها وعددها بشواهد نجومها حتى يتعرف أنها سماوات معدودة، وذلك مما يظهر موقعه عند من له اعتبار في مخلوق السماوات؛ ولما لم يكن للأرضين شواهد محسوسة بعددها كما في السماوات لم يجر ذكرها في القرآن إلا مفردة وجاء ذكر السماوات معددة لأهل النظر العقلي ومفردة لأهل النظر الحسي، وأيسر معتبر ما بين السماوات والأرض في مقابلة حظيهما في كون السماوات في حد من العلو والصفاء والنورانية والحركة والأرض في مقابل ذلك من السفل والكثافة والظلمانية والسكون، فيقع الاعتبار بحصول مشهود التعاون من مشهود التقابل، وذلك مما يعجز الخلق فيعلمون أنه من أمر الحق، لأن الخلق إنما يقع لهم التعاون بالمتناسب لا بالمتقابل، فمن آلته الماء مثلاً تفسد عليه النار، ومن آلته النار يفسد عليه الماء، والحق سبحانه وتعالى أقام للخلق والموجودات والموالد آحاداً مجتمعة قد قهر فيها متنافرات موجودات الأركان وموجود خلق السماء والأرض المشهود تقابلهما، فما وقع اجتماع النار بالماء على تقابل ما بين الحار والبارد، واجتماع الهواء بالأرض على تقابل ما بين الكثيف واللطيف، واجتماع الكل في شيء واحد من جسم واحد وعضو واحد حتى في جزء واحد من أدق أجزائه إلا بأمر يعجز عنه الخلق ولا يقدر عليه إلا الحق الذي يحار فيه الخلق، فهو إذن إلههم الذي هو إله واحد، آثاره موجودة في أنفسهم، وشواهده مبصرة بأعينهم وحقائق تلك الشواهد بادية لعقولهم، فكأنه سبحانه وتعالى أقرأهم ذكره الحكيم المرئي لأعينهم كشفاًً لغطاء أعينهم ليتميزوا عن الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكره.
ولما ذكر سبحانه وتعالى خلق متقابل العلو والسفل في ذكر السماوات والأرض نظم بها اختلاف الأفقين اللذين فيهما ظهور مختلفي الليل والنهار ليتريع اعتبارهم بين اعتبار الأعلى والأسفل والمشرق والمغرب فيقع شواهد الإحاطة بهم عليهم في توحيد ربهم وإرجاع ذلك إليه دون أن يعزي ذلك إلى شيء من دونه مما هو داخل في حصر موجود هذه الإحاطة من المحيط الأعلى والمحيط الأسفل والمحيط بالجوانب كلها من ملبس الآفاق من الليل والنهار خطابَ إجمال يناسب مورد السورة التي موضوعها إجمالات ما يتفسر فيها وفي سائر القرآن من حيث إنها فسطاطه وسنامه- انتهى.
ولما ذكر تعالى ما أنشأه سير الكواكب في ساحة الفلك أتبعه سير الفلك في باحة البحر فقال: {والفلك} وهو ما عظم من السفن في مقابلة القارب وهو المستخف منها. قال الحرالي: استوى واحده وجمعه، حركات الواحد أولى في الضمير وحركات الجمع ثوان في الضمير من حيث إن الواحد أول والجمع ثان مكسر انتهى.
ولما أراد هنا الجمع لأنه أدل على القدرة وصف بأداة التأنيث فقال {التي تجري} بتقدير الله، وحقق الأمر بقوله: {في البحر} أسند الجري إليها ومن المعلوم أنه لا جري لها حقيقة ولا فعل بوجه ترقية إلى اعتقاد مثل ذلك في النجوم إشارة إلى أنه لا فعل لها ولا تدبير كما يعتقد بعض الفلاسفة. وقال الحرالي: ولما ذكر سبحانه وتعالى جملة الخلق وجملة الاختلاف في الوجهين وصل بذلك إحاطة البحر بالأرض وتخلل البحار فيها لتوصل المنافع المحمولة في الفلك مما يوصل من منافع المشرق للمغرب ومنافع المغرب للمشرق ومنافع الشمال للجنوب وبالعكس، فما حملت جارية شيئاً ينتفع به إلا قد تضمن ذكره مبهم كلمة {ما} في قوله تعالى: {بما ينفع الناس} وذكرهم باسم الناس الذي هو أول من يقع فيه الاجتماع والتعاون والتبصر بوجه ما أدنى ذلك في منافع الدنيا الذي هو شاهد هذا القول- انتهى.
ولما ذكر نفع البحر بالسفن ذكر من نفعه ما هو أعم من ذلك فقال: {وما أنزل الله} الذي له العظمة التامة {من السماء} أي جهتها باجتذاب السحاب له. ولما كان النازل منها على أنواع وكان السياق للاستعطاف إلى رفع الخلاف ذكر ما هو سبب الحياة فقال: {من ماء فأحيا به الأرض} بما ينبت منها ولما كان الإحياء يستغرق الزمن المتعقب للموت نفى الجار فقال: {بعد موتها} بعدمه.
ولما ذكر حياة الأرض بالماء أشار إلى أن حياة كل ذي روح به فقال {وبث} من البث وهو تفرقة أحاد مستكثرة في جهات مختلفة {فيها} بالخضب {من كل دابة} من الدبيب وهو الحركة بالنفس قال الحرالي: أبهم تعالى أمر الخلق والاختلاف والإجراء فلم يسنده إلى اسم من أسمائه يظهره، وأسند إنزال الماء من السماء إلى اسمه العظيم الذي هو الله لموقع ظهور القهر على الخلق في استدرار أرزاق الماء واستجداده وقتاً بعد وقت بخلاف مستمر ما أبهم من خلق السماوات والأرض الدائم على حالة واختلاف الليل والنهار المستمر على وجهة واحتيال إجراء الفلك الماضي على حكم عادته، فأظهر اسمه فيما يشهد به عليهم ضرورتهم إليه في كل حول ليتوجهوا في العبادة إلى علو المحل الذي منه ينزل الماء فينقلهم بذلك من عبادة ما في الأرض إلى عبادة من في السماء {ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} [الملك: 16] وقال عليه الصلاة والسلام للأمة: «أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة» فأذن أدنى الإيمان التوجه إلى عبادة من في السماء ترقياً إلى علو المستوى على العرش إلى غيب الموجود في أسرار القلوب، فكان في هذه التوطئة توجيه الخلق إلى الإله الذي ينزل الماء من السماء وهو الله الذي لم يشرك به أحد سواه ليكون ذلك توطئة لتوحيد الإله، ولذلك ذكر تعالى آية الإلهية التي هي الإحياء، والحياة كل خروج عن الجمادية من حيث إن معنى الحياة في الحقيقة إنما هو تكامل في الناقص، فالمهتزّ حي بالإضافة إلى الجماد ترقياً إلى ما فوق ذلك من رتب الحياة من نحو حياة الحيوان ودواب الأرض، فلذلك ذكر تعالى الإحياءين بالمعنى، وأظهر الاسم مع الأرض لظهوره في الحيوان، فأظهر حيث خفي عن الخلق، ولم يذكره حيث هو ظاهر للخلق، فنبههم على الاعتبارين إنزال الماء الذي لهم منه شراب ومنه شجر وبه حياة الحيوان ومنه مرعاهم.
ولما ذكر سبحانه وتعالى بث ما هو السبب للنبات المسبب عن الماء ذكر بث ما هو سبب للسحاب السبب للمطر السبب للحياة فقال تعالى: {وتصريف الرياح} أي تارة صباً وأخرى دبوراً ومرة شمالاً وكرة جنوباً، والتصريف إجراء المصرف بمقتضى الحكم عليه، والريح متحرك الهوى في الأقطار {والسحاب} وهو المتراكم في جهة العلو من جوهر ما بين الماء والهواء المنسحب في الجو {المسخر} أي بها، من التسخير وهو إجراء الشيء على مقتضى غرض ما سخر له {بين السماء والأرض} لا يهوى إلى جهة السفل مع ثقله بحمله بخار الماء، كما تهوى بقية الأجرام العالية حيث لم يكن لها ممسك محسوس ولا ينقشع مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاثة: فالكثيف يقتضي النزول واللطيف يقتضي الصعود، والمتوسط يقتضي الانقشاع {لآيات} وقال الحرالي: لما ذكر تعالى الأعلى والأسفل ومطلع الليل والنهار من الجانبين وإنزال الماء أهواءً ذكر ما يملأ ما بين ذلك من الرياح والسحب الذي هو ما بين حركة هوائية إلى استنارة مائية إلى ما يلزم ذلك من بوادي نيراته من نحو صواعقه وجملة أحداثه، فكان في هذا الخطاب اكتفاء بأصول من مبادئ الاعتبار، فذكر السماء والأرض والآفاق وما بينهما من الرياح والسحب والماء المنزل الذي جملته قوام الخلق في عاجل دنياهم، ليجعل لهم ذلك آية على علو أمر وراءه ويكون كل وجه منه آية على أمر من أمر الله فيكون آيات، لتكون السماء آية على علو أمر الله فيكون أعلى من الأعلى، وتكون الأرض آية على باطن أمر الله فيكون أبطن من الأبطن، ويكون اختلاف الليل والنهار آية على نور بدوه وظلمة غيبته مما وراء أمر الليل والنار، ويكون ما أنزل من الماء لإحياء الأرض وخلق الحيوان آية ما ينزل من نور علمه على القلوب فتحيا بها حياة تكون حياة الظاهر آية عليه، ويكون تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض آيات على تصريف ما بين أرض العبد الذي هو ظاهره وسمائه الذي هو باطنه، وتسخير بعضه لبعض ليكون ذلك آية على علو الله على سمائه العلى في الحس وعلى سماء القلوب العلية في الوجدان؛ فلجملة ذلك جعل تعالى صنوف هذه الاعتبارات {لآيات لقوم} وهم الذين يقومون في الأمر حق القيام، ففيه إشعار بأن ذلك لا يناله من هو في سن الناس حتى يتنامى طبعه وفضيلة عقله إلى أن يكون من قوم يقومون في الاعتبار قيام المنتهضين في أمور الدنيا، لأن العرب عرفت استعمالها في القوم إنما هو لأجل النجدة والقوة حتى يقولون: قوم أو نساء.
تقابلاً بين المعنيين؛ وذكر تعالى العقل الذي هو نور من نوره هدى لمن أقامه من حد تردد حال الناس إلى الاستضاءة بنوره في قراءة حروف كتابه الحكيم التي كتبها بيده وأغنى الأميين بقراءة ما كتب لهم عن قراءة كتاب ما كتبه الخلق- انتهى؛ فقال: {يعقلون} أي فيعلمون أن مصرف هذه الأمور على هذه الكيفيات المختلفة والوجوه المحكمة فاعل مختار وهو قادر بما يشاهد من إحياء الأرض وغيرها مما هو أكبر منه على بعث الموتى وغيره مما يريده وأنه مع ذلك كله واحد لا شريك له يمانعه العقلاء من الناس، يعلمون ذلك بذلك فلا يتخذون أنداداً من دونه ولا يميلون عن جنابه الأعلى إلى سواه، وقد اشتملت هذه الآية على جميع ما نقل البيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن الحليمي أنه مما يجب اعتقاده في الله سبحانه وتعالى وهو خمسة أشياء: الأول إثباته سبحانه وتعالى لتقع به مفارقة التعطيل، والثاني وحدانيته لتقع به البراءة عن الشرك- وهذان من قوله: {وإلهكم إله واحد} [البقرة: 163] والثالث إثبات أنه ليس بجوهر ولا عرض لتقع به البراءة من التشبيه وهذا من قوله: {لا إله إلا هو} [البقرة: 163] لأن من لا يسد غيره مسده لا شبيه له، والرابع إثبات أن وجود كل ما سواه كان بإبداعه له واختراعه إياه لتقع به البراءة من قول من يقول بالعلة والمعلول وهذا من قوله: {الرحمن الرحيم} [البقرة: 163] {إن في خلق السماوات والأرض} [البقرة: 164]، والخامس أنه مدبر ما أبدع ومصرفه على ما يشاء لتقع به البراءة من قوله القائلين بالطبائع أو تدبير الكواكب أو تدبير الملائكة وهذا من قوله: {وما أنزل الله من السماء من ماء} [البقرة: 164] إلى آخرها قال البيهقي: كان أسماء الله سبحانه وتعالى جده التي ورد بها الكتاب والسنة وأجمع العلماء على تسميته بها منقسمة بين العقائد الخمس، فليلحق بكل واحدة منهن بعضها، وقد يكون منها ما يلتحق بمعنيين ويدخل في بابين أو أكثر- انتهى. وسبب تكثير الأدلة أن عقول الناس متفاوتة، فجعل سبحانه وتعالى العالم وهو الممكنات الموجودة وهي جملة ما سواه الدالة على وجوده وفعله بالاختيار على قسمين: قسم من شأنه أن يدرك بالحواس الظاهرة ويسمى في عرف أهل الشرع الشهادة والخلق والملك، وقسم لا يدرك بالحواس الظاهرة ويسمى الغيب والأمر والملكوت، والأول يدركه عامة الناس والثاني يدركه أولو الألباب الذين عقولهم خالصة عن الوهم والوساوس، فالله سبحانه وتعالى بكمال عنايته ورأفته ورحمته جعل العالم بقسميه محتوياً على جمل وتفاصيل من وجوه متعددة وطرق متكثرة تعجز القوى البشرية عن ضبطها يستدل بها على وحدانيته بعضها أوضح من بعض ليشترك الكل في المعرفة، فيحصل لكل بقدر ما هيئ له، اللهم إلا أن يكون ممن طبع على قلبه، فذلك والعياذ بالله سبحانه وتعالى هو الشقي.


ولما نهضت الأدلة وسطعت البراهين وزاحت العلل والشكوك عاب من عبد سواه وفزع إلى غيره كما نهى عن الأنداد عقب الآية الأولى الداعية إلى العبادة مشيراً بختم التي قبل بيعقلون، إلى أن هؤلاء ناس ضلت عقولهم وفالت آراؤهم وبين أنهم يتبرأ بعضهم من بعض يوم ينكشف حجاب الغفلة عن سرادق العظمة ويتجلى الجبار في صفة النقمة فقال سبحانه وتعالى عاطفاً على ما قدرته مما أرشد إليه المعنى: ومن، أو يكون التقدير فمن الناس من عقل تلك الآيات فآمن بربه وفنى في حبه {ومن الناس من يتخذ} وهم من لا يعقل {من دون الله} الذي لا كفؤ له مع وضوح الأدلة {أنداداً} مما خلقه، ادعوا أنهم شركاؤه، أعم من أن يكونوا أصناماً أو رؤساء يقلدونهم في الكفر بالله والتحريم والتحليل من غير أمر الله {يحبونهم} من الحب وهو إحساس بوصلة لا يدرى كنهها {كحب الله} الذي له الجلال والإكرام بأن يفعلوا معهم من الطاعة والتعظيم فعل المحب كما يفعل من ذلك مع الله الذي لا عظيم غيره، هذا على أنه من المبني للمفعول ويجوز أن يكون للفاعل فيكون المعنى كحبهم لله لأنهم مشركون {والذين آمنوا أشد حباً لله} الذي له الكمال كله من حب المشركين لأندادهم فأفاض عليهم من كماله، لأنهم لا يعدلون به شيئاً في حالة من الحالات من ضراء أو سراء في بر أو بحر، بخلاف المشركين فإنهم يعدلون في الشدائد إليه سبحانه وتعالى، وإذا رأوا في الرخاء حجراً أحسن تركوا الأول وعبدوه، وحبهم هوائي وحب المؤمنين عقلي. وقال الحرالي: ولما استحق القوم القائمون في أمر الله سبحانه وتعالى هذا الاعتبار بما آتاهم الله من العقل لم يكن من اتخذ من دون الله أنداداً مما يقال فيهم: قوم، بل يقصرون إلى اسم النوس الذي هو تردد وتلدّد فكأنه سبحانه وتعالى عجب ممن لم يلحق بهؤلاء القوم في هذا الاعتبار الظاهرة شواهده البيّنة آثاره، فأنبأ أن طائفة من الناس على المقابلة من ذلك الاعتبار الظاهر لنور العقل في أخذهم لمقابل العقل من الحزق الذي يقدم في موضع الإحجام ويحجم في موضع الإقدام، ثم غلب ذلك عليهم حتى وصل إلى بواطنهم فصار حباً كأنه وصلة بين بواطنهم وقلوبهم وما اتخذوه من دون الله أنداداً، ففيه إشعار بنحو مما أفصح به لبني إسرائيل في كون قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، ففي كرم هذا الخطاب في حق العرب ستر عليهم رعاية لنبيهم في أن يصرح عليهم بما صرح على بني إسرائيل، ففي لحنه إشعار بأن من اتخذ نداً من دون الله فتلك لوصلة بين حال قلبه وحال ما اتخذ من دون الله، فمن عبد حجراً فقلبه في القلوب حجر ومن عبد نباتاً فقلبه في القلوب نبات، وكذا من عبد دابة {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} [البقرة: 93] كذلك إلى ما يقع معبوداً من دون الله ما بين أعلى النيرين الذي هو الشمس إلى أدنى الأوثان إلى ما يقع في الخلق من عبادة بعضهم بعضاً من نحو عبادة الفراعنة والنماردة إلى ما يلحق بذلك من نحو رتبة العبادة باتباع الهوى الشائع موقعه في الأمم وفي هذه الأمة، لأن من غلب عليه هوى شيء فقد عبده، فكأن عابد الشمس قلبه سعير وعابد النار قلبه نار وعابد القمر قلبه زمهرير، ومن عبد مثله من الخلق فقد عبد هواه {أرأيت من اتخذ إلهه هواه} [الفرقان: 43] فمن عبد الله فهو الذي علا عن سواه من المخلوقات فعادل سبحانه وتعالى خطاب الأولين المعتبرين العقلاء بهذا الصنف الذي انتهى أمرهم في الكفر إلى الحب من حيث اعتقلت بواطنهم بهم فيما شأنه أن يختص بالله من الخوف والرجاء والنصرة على الأعداء والإعانة للأولياء، فلما توهموا فيهم مرجى الإلهية، ومخافتها أحبوهم لذلك كحب الله لأن المتعبد مؤتمر ومبادر فالمبادر قبل الأمر محب، والمجيب للأمر مطيع، فالمحب أعلى في الطرفين- انتهى. ولما عجب من حالهم حذر من سوء منقلبهم ومآلهم فقال: {ولو يرى الذين ظلموا} أي ولو يرون أي المتخذون للأنداد ولكنه أظهر لأجل التعميم الوصف الذي استحقوا به ما يذكر، وهو وضعهم الشيء في غير محله كفعل من يمشي في مأخذ الاشتقاق وهو الظلمة، وذلك هنا تسويتهم ممن لا يملك شيئاً أصلاً بمن يملك كل شيء {إذ يرون العذاب} أي يتخذون أنداداً والحال أنهم لو يعلمون حين إهانتهم ولين ما غلظ من أكبادهم ورؤية ما لا يستحق غيره بالنسبة إليه يسمى عذاباً {أن القوة لله} الذي له مجامع الكمال {جميعاً} حين يشاهدون العذاب قد أحاط بهم {وأن الله} الذي لا ملك سواه {شديد العذاب} لم يتخذوا أنداداً ولم يعدلوا بالله أحداً، أو يكون التقدير: ولو ترى بالتاء والياء، أي لو أبصرت أو أبصر الذين ظلموا أنفسهم باتخاذهم الأنداد- إلى آخره. وقال الحرالي: قال تعالى: {ولو يرى} عطفاً على متجاوز أمور من أمور جزائهم مما نالهم من عقوبات أثر كفرهم في الدنيا، قال عليه الصلاة والسلام: «إذا أذنب العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء» إلى متمادي غاية رؤيتهم العذاب، وفي قوله: {ترى} بالتاء إقبالاً على النبي صلى الله عليه وسلم تعجيب له بما ينالهم مما أصابوه، وفيه إشعار بأن ذلك من أمر يعلو أمره إلى محل رؤيته التي هي أتم الرؤية، وفي قوله: {يرى} بالياء تحسر عليهم يشعر بأن منالهم من رؤية العذاب مما كان يزجرهم عما هم عليه لو رأوه- انتهى.
{إذ يرون} أي الوقت الذي يبصرون فيه العذاب، أي الأكبر الذي لا عذاب مثله؛ كما أفهمه تعريفه بأل، ثم بينه بقوله: {إن القوة} وهي مُنّة الباطن التي يجدها المقتدر منشأ لما يبديه ظاهره وما يبديه ظاهره قدرة القوى جمعها وأصلها والقدرة ظاهرها وتفصيل إنشائها لله جميعاً، فإنه لا شيء أشق على الإنسان من أن يرى خصمه نافذ الأمر منفرداً بالعز في كل معنى لا سيما إذا كان جباراً متكبراً شديد البطش ممن عصاه، كما يشير إليه قوله: {وإن الله شديد العذاب} ولا سيما إذا كان العاصي له قد أساء إليه بالإساءة إلى أوليائه وبالغ حتى لم يدع للصلح موضعاً. وقال الحرالي: موضع الرؤية في الحقيقة هو أن القوة لله جميعاً سلباً عن جميع أندادهم الذين أحبوهم وعن أنفسهم، كما قال قائلهم {نحن أولو قوة وأولو بأس شديد} [النمل: 33] لكن لما كان رؤيتهم لذلك عن رؤية مشهود العذاب الذي هو أتم العذاب ذكر العذاب الذي هو ظاهر مرأى أن القوة لله جميعاً، وفي {إن القوة} إعلام باطلاعهم يوم هذه الرؤية على بواطن أندادهم وسلبها ما شأن البواطن أن تتحلى به من القوة من حيث وصفهم لهم بالحب الباطن أطلعهم على سلب قواهم الباطنة بالرؤية التي هي باطن البصر الذي هو باطن النظر، ولما ذكر أمر القوة عطف عليه ما هو أمر القدرة فقال {وإن الله شديد العذاب} إكمالاً للخطاب بظاهره، واستأنف معه الاسم العظيم لإظهار ما بين غايتي الباطن والظاهر في أمر القدرة والقوة، ليكون مع المنظر الظاهر بالقدرة اسم أظهره واستأنفه وقدم ذكره كما كان مع المرأى الباطن بالقوة اسماً أضاف إليه وأنهى له ليقع ماولى أول الخطاب مقابل ما ختم به الخطاب، فينعطف أوله على آخره وآخره على أوله باطناً لظاهر وظاهراً لباطن في المتعاطفين جميعاً في قوله: {إن القوة لله جميعاً وإن الله شديد العذاب} انتهى أو يقال: إذ يرون العذاب الذي يتوعدون به الآن لأن القوة لله جميعاً فلا مانع له من إتيانهم به، كما تبين في الآيتين قبلها أنه لا كفؤ له وأنه كامل القدرة شامل العلم، والجواب محذوف لتهويله لذهاب وهم المتوعد إلى كل ضرب من أنواع التوعد، ولو ذكر ضرب منه لأمكن أن يوطن نفسه عليه، فالتقدير: لو رأيت أو رأوا ذلك الوقت الذي يشاهدون فيه تلك العظمة لرأيت أو لرأوا أمراً فظيعاً هائلاً شاغلاً لهم عن اتخاذ الأنداد ومحبتها وغير ذلك من الظلم، وحذف الجواب للعلم به كما حذف من أمثاله؛ ثم أبدل من {إذ يرون} قوله: {إذ تبرأ} وهو من التبرؤ الذي هو طلب البراءة وإيقاعها بجد واجتهاد، وهي إظهار التخلص من وصلة أو اشتباك {الذين اتُّبعوا} أي مع اتباع غيرهم لهم، وهم الرؤساء {من الذين اتَّبعوا} مع نفعهم لهم في الدنيا بالاتباع لهم والذب عنهم.
وقال الحرالي: قال ذلك إظهاراً لإفصاح ما أفهمه مضمون الخطاب الأول لتتسق الآيات بعضها ببعض، فتظهر الآية ما في ضمن سابقتها، وتجمع الآية ما في تفصيل لاحقتها وإعلاءً للخطاب بما هو المعقول علمه المتقدم إلى ما في الإيمان نبأه ليتم نور العقل الذي وقع به الاعتبار بنور الإيمان الذي يقع به القبول لما في الآخرة عيانه، فمن عقل عبرة الكون الظاهر استحق إسماع نبأ الغيب الآتي؛ ثم قال: بذا يتبرأ المتبوع في الذكر لأنه الآخر في الكون، فكأنه في المعنى: إنما تعلق التابع بالمتبوع ليعيذه في الآخرة كما كان عهد منه أن يعيذه في الدنيا فيتبرأ منه لما ذكر تعالى من {أن القوة لله جميعاً} ولذلك اتصل ذكر التبرؤ بذكر قبض القوة والقدرة عنهم- انتهى.
قال تعالى: {ورأوا} أي الكل {العذاب} أي الذي لا محيص لهم عنه. وقال الحرالي: قاله رداً للإضمار على الجميع، وفيه إشعار بأن ذلك قبل غلبة العذاب عليهم وفي حال الرؤية، ففيه إنباء بأن بين رؤيتهم العذاب وبين أخذهم به مهل يقع فيه خصومتهم وتبرؤهم وإدراكهم للحق الذي كان متغيباً عنهم في الدنيا بما فتن بعضهم بعضاً- انتهى. {وتقطعت} أي تكلفت وتعمدت القطع وهو بين المتصل، أشار إليه الحرالي، ومعناه أنه قطع بقوة عظيمة، ويجوز أن تكون صيغة التفعل إشارة إلى تكرر القطع في مهلة بأن يظهر لهم انقطاع الأسباب شيئاً فشيئاً زيادة في إيهانهم وإيلامهم وهو أنهم {بهم} أي كلهم جميع {الأسباب} أي كلها، وهي الوصل التي كانت بينهم في الدنيا، والسبب ما يتوصل به إلى حصول، في الأصل الحبل، ثم قيل لكل مقصد. قال الحرالي: وفيه إشعار بخلوّ بواطنهم من التقوى ومن استنادهم إلى الله سبحانه وتعالى في دنياهم، وأنهم لم يكونوا عقلوا إلا تسبب بعضهم ببعض فتقطعت بهم الأسباب ولم يكن لهم، لأن ذلك واقع بهم في أنفسهم لا واقع لهم في غيرهم، فكأنهم كانوا نظام أسباب تقطعت بهم فانتثروا منها، وأسبابهم وصل ما بينهم في الدنيا التي لم تثبت في الآخرة، لأنها من الوصل الفانية لا من الوصل الباقية لأن متقاضى ما في الدنيا ما كان منه بحق فهو من الباقيات الصالحات وما كان منه عن هوى فهو من الفاني الفاسد- انتهى.
{وقال الذين اتبعوا} وهم الأذناب متمنين للمحال ندماً على اتباع من لا ينفع حيث لا ينفع الندم {لو أن لنا كرة} أي رجعة إلى الدنيا. وقال الحرالي: هي رجع وعودة عند غاية فرّة- انتهى. ولما كانت {لو} بمعنى التمني نصب جوابها فقال {فتبرأ منهم} أي الرؤساء هناك ونذلهم {كما تبرؤوا منا} وأذلّونا هنا.
وقال الحرالي: فيه إنباء عن تأسفهم على اتباع من دون ربهم ممن اتبعوا وإجراء لتأسفهم على وجه متوهم غير محقق على حد ما كان تمسكهم بهم متوهم انتفاع غير محقق، ففيه إثبات لحالهم في الآخرة على ما كان ينالهم في الدنيا من الأخذ بالموهوم والغيبة عن المعلوم- انتهى.
ولما كانت هذه الأشياء بعضها ثمرة أعمالهم وبعضها حكاية أقوالهم قال تعالى: على طريق الاستئناف جواباً لمن يقول: لقد رأوا جزاء عقائدهم فهل يرون جزاء أعمال الجوارح {كذلك} أي الأمر الفظيع المهول {يريهم الله} الذي له القدرة التامة والعظمة الكاملة {أعمالهم} الخبيثة وغيرها {حسرات عليهم} أي تلهفاً على ما فات، إطلاقاً للمسبب على السبب وأشار بأداة الاستعلاء إلى غلبتهم وشدة هوانهم فقال: {عليهم} وقال الحرالي: لما كانت عقائدهم فيهم حسرات أراهم أعمالهم التي عملوها لابتغاء الخير في الدنيا حسرات {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} [الفرقان: 23] كما كان عمل من قلبه محب ومتأله لما دون الله، وفيه إشعار بأن عمل كل عامل مردود إنى ما اطمأن به قلبه وسكنت إليه نفسه وتعلق به خوفه ورجاؤه، فمن غلب على سره شيء فهو ربه الذي يصرف عمله إليه، فلا يجد عنده جزاء لتبرؤه منه فيصير حسرة عليه، فأنبأ سبحانه وتعالى بأنهم لا ينصرونهم في الآخرة ولا يجزونهم على أعمالهم، فلم ينفعهم تألههم إياهم، والمتبوع منهم متأله لنفسه فلم يجد عندها جزاء عمله، فتحسر كل منهم على ما عمل من عمل الخير لإحباطه {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] والحسرة أشد الأسف على الفائت الذي يحسر المتلهف أي يقطعه عما تحسر عليه- انتهى. ويدخلون بأعمالهم النار {وما هم} أي بفائت خروجهم بل هم وإن خرجوا من السعير إلى الزمهرير يعودون إليه {بخارجين من النار} يوماً من الأيام ولا ساعة من الساعات بل هم خالدون فيها على طول الآباد ومر الأحقاب، بخلاف عصاة المؤمنين فإنهم إذا خرجوا منها لم يعودوا إليها. قال الحرالي: وفيه إشعار بقصدهم الفرار منها والخروج كما قال سبحانه وتعالى: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} [السجدة: 20] فأنبأ تعالى أن وجهتهم للخروج لا تنفعهم، فلم تبق لهم منّة تنهضهم منها حتى ينتظم قطع رجائهم من منة أنفسهم بقطع رجائهم ممن اعتلقوا به من شركائهم ولم يكن {وما هم منها بمخرجين} [الحجر: 48] كما قال في أهل الجنة للإشعار بأن اليأس والانقطاع واقع منهم على أنفسهم، فكما كان بوادي أعمالهم في الدنيا من أنفسهم عندهم جرى نبأ جزائها على حد ذلك في المعنى كما قال: أعمال أهل الجنة عندهم من توفيق ربهم جرى ذكر جزائهم على حد ذلك من المعنى بحسب ما يقتضيه اختلاف الصيغتين- انتهى.
ولعل الآية ناظرة إلى قوله أول السورة {ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8] يعني كما أن في أهل الكتاب منافقين ومصارحين فكذلك في العرب، فصار قوله: {إن الذين كفروا سواء عليهم} [البقرة: 6] شاملاً للأقسام الأربعة، ثم أتبع ذلك المنافقين من العرب ثم المنافقين والمشاققين من أهل الكتاب ثم المجاهرين من العرب فصار قسما العرب مكتنفين لقسمي أهل الكتاب إشارة إلى أنهم المقصودون بالذات وأنه سيؤمن أكثرهم ويغلبون أهل الكتاب ويقتلونهم قتل الكلاب؛ ولما عجب سبحانه وتعالى من الضالين وبين من مآلهم ما يزجر مثله من له أدنى عقل فكانوا بذلك في عداد المقبل بعد الإدبار والمذعن بعد الاستكبار أقبل على الكل كما فعل في آية التوحيد الأولى فقال {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} إقبال متلطف بعموم الإذن في تناول ما أبدعه لهم ورحمهم به في هذا الملكوت المذكور في ضمن ما نصب من الأدلة تذكيراً لهم بالنعمة وتودداً إليهم بجميع ما يوجب المحبة وإشارة إلى أنه هو الذي خلق لهم ما تقربوا به إلى غيره مما ادعوه نداً من البحيرة والسائبة والوصيلة وما شاكلها فقال {يا أيها الناس} وإن اختصرت فقل: لما أقام سبحانه وتعالى الدليل على الوحدانية بما خلق من المنافع وصنف الناس صنفين ضال معطوف دال بعطفه على غير مذكور على مهتد معطوف عليه وختم بتأبيد عذاب الضال أقبل على الصنفين إقبال متلطف مترفق مستعطف منادياً لهم إلى تأبيد نفعهم قائلاً: {يا أيها الناس} أي كافة. وقال الحرالي: لما استوفى سبحانه وتعالى ذكر أمر الدين إلى أنهاه من رتبة دين الإسلام الذي رضيه وكان الدين هو غذاء القلوب وزكاة الأنفس نظم به ذكر غذاء الأبدان من الأقوات ليتم بذكر النماءين نماء الذوات ظاهرها البدني وباطنها الديني، لما بين تغذي الأبدان وقوام الأديان من التعاون على جمع أمري صلاح العمل ظاهراً وقبوله باطناً، قال عليه الصلاة والسلام: «لا يقبل الله عملاً إلا بالورع الشافي»؛ وكما قيل: ملاك الدين الورع، وهلاكه الترف، ونقصه السرف؛ فكما انتظم الكتاب قصر الخلق على أفضل متصرفاتهم في التدين اتصل به قصرهم على أفضل مأكلهم في التقوت، ولما ذكر الدين في رتبتي صنفين من الناس والذين آمنوا انتظم به ذكر المأكل في صنفيهما فقال {يا أيها الناس} فانتظم بخطاب قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} لما بين العبادة والمأكل من الالتزام- انتهى.
ولما كانت رتبة الناس من أدنى المراتب في خطابهم أطلق لهم الإذن تلطفاً بهم ولم يفجأهم بالتقييد فقال مبيحاً لهم ما أنعم به عليهم {كلوا} ولما كان في الأرض ما لا يؤكل قال: {مما في الأرض} أي مما بينا لكم أنه من أدلة الوحدانية.
ولما كان في هذا الإذن تنبيه على أن الكل له والانتفاع به يتوقف على إذن منه دلهم على أن فيه ما أباحه وفيه ما حظره فقال: {حلالاً} قال الحرالي: وهو ما انتفى عنه حكم التحريم فينتظم بذلك ما يكره وما لا يكره، والتحريم المنع مما يلحق الأكل منه ضرر في جسمه كالميتة، أو في نفسه كلحم الخنزير، أو رين على قلبه كما أهل لغير الله به؛ ثم أشار إلى أن ما حرم خبيث بقوله: {طيباً} أي غير خبيث مستقذر، والأصل فيه ما يستلذ؛ ويوصف به على جهة التشبيه الطاهرُ لأن النجس تكرهه النفس لقذره، والحلالُ لأن الحرام يقذره العقل لزجر الشرع عنه. وقال الحرالي: الحلال مطلوب ليكتسب لا ليؤكل حتى يطيب، والطيب ما لا منازغ فيه- انتهى.
ولما كان هذا الصنف أدنى المتدينين قرن سبحانه وتعالى بإطعامهم مما في الأرض لكونهم أرضيين نهاهم عن اتباع العدو المبني أمره على المنافرة فقال: {ولا تتبعوا} وأشار بصيغة الافتعال إلى انهماك هذا الصنف على اللحاق به وأنهم غير واصلين ما داموا في هذا الحيز إلى تمام منابذته وإنما عليهم الجهد لأن مخالفته لا تكون إلا بمجاهدة كثيرة لا يقدرون عليها ما داموا في هذه الرتبة {خطوات} جمع خطوة وهي ما بين القدمين في المشي {الشيطان} أي طرقه في وساوسه في اتخاذ الأنداد وتحريم الحلال كالسوائب وتحليل الحرام كالميتات، فإن ذلك كله من أمره كما يأتي في قوله: {ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام} [النساء: 119] الآية وهو من شطن إذا بعد، وشاط إذا احترق، فهو يبعدهم- كما قال الحرالي- عن وطن ما هم عليه من الائتمار في مآكلهم إلى التناول بشهواتهم ليستدرجهم لذلك من خطوة الأكل بالشهوة إلى الأكل بالهوى فيتداعى منها إلى المحرمات- انتهى. ثم علل ذلك بقوله: {إنه لكم عدو} بتكبره على أبيكم ومكره به وسؤاله الإنظار لإضلالكم {مبين} أي ظاهر العداوة فلا تتبعوا العدو في منابذة الولي. ثم علل إبانة عداوته والنهي عن اتباعه بقوله: {إنما} فحصر لينتفي عنه الأمر بشيء فيه رشد؛ وفي قوله: {يأمركم} كما قال الحرالي إنباء بما مكنه الله سبحانه وتعالى حتى صار أمراً {بالسوء} وهو خبائث الأنفس الباطنة التي يورث فعلها مساءة {والفحشاء} قال الحرالي: وهو ما يكرهه الطبع من رذائل الأعمال الظاهرة كما ينكره العقل ويستخبثه الشرع، فيتفق في حكمه آيات الله الثلاث من الشرع والعقل والطبع، بذلك يفحش الفعل {وأن تقولوا على الله} الحائز أقصى مراتب العظمة {ما لا تعلمون} مما تستفتحون قوله في أقل الموجودات من إشراك أو ادعاء ولد أو تحليل وتحريم أو غير ذلك، ولقد أبلغ سبحانه وتعالى في هذه الآية في حسن الدعاء لعباده إليه لطفاً منه بهم ورحمة لهم بتذكيرهم في سياق الاستدلال على وحدانيته بما أنعم عليهم بخلقه لهم أولاً وبجعله لهم ملائماً ثانياً وإباحته لهم ثالثاً وتحذيره لهم من العدو رابعاً- إلى غير ذلك من دقائق الألطاف وجلائل المنن في سياق مشير إلى جميع أصناف الحلال وسبب تحليله.
قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة في حرف الحلال: وجه إنزال هذا الحرف توسيع الاستمتاع بما خلق الله في الأرض من نعمة وخيره الموافقة لطباعهم وأمزجتهم وقبول نفوسهم في جميع جهات الاستمتاع من طعام وشراب ولباس ومركب ومأوى وسائر ما ينتفع به مما أخرج الله سبحانه وتعالى ومما بثه في الأرض وما عملت أيديهم في ذلك من صنعة وتركيب ومزج ليشهدوا دوام لبس الخلق الجديد في كل خلق على حسب ما منه فطر خلقه؛ ولما كان الإنسان مخلوقاً من صفاوة كل شيء توسع له بجهات الانتفاع بكل شيء إلا ما استثنى منه بحرف الحرام ووجهه كما استثنى لآدم أكل الشجرة من متسع رغد الجنة فكان له المتاع بجميعه إلا ما أضر ببدنه أو خبث نفسه أو ران على علم قلبه وذلك بأن يسوغ له طبعاً وتحسن مغبّته في أخلاق نفسه ويسنده قلبه لمنعمه الذي يشهد منه بداياته وتكملاته تجربة ثم كمل القرآن ذلك بإخلاصه للمنعم من غير أثر لما سواه فيه وجامع منزله بحسب ترتيب القرآن قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29] ومن أوائله بحسب ترتيب- البيان والله سبحانه وتعالى أعلم {هو الذي أنزل لكم من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون} [النحل: 10] الآية وسائر الآيات الواردة في سورة النحل وفي سورة يس إذ هي القلب الذي منه مداد القرآن كله في قوله تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون} [يس: 23] الآيات إلى سائر ما في القرآن من نحوه، ومن متسع خلال هذا الحرف وقعت الفتنة على الخلق بما زين لهم منه {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} [آل عمران: 14] الآية ووجه فتنته أن على قدر التبسط فيه يحرم من طيب الآخرة {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} [الأحقاف: 20] «إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة» {فاستمتعوا بخلاقهم} [التوبة: 69] ومن رؤية سوء هذا المخبر نشأ زهد الزاهدين، ومن رؤية حسن المتجر وربحه وتضاعفه إلى ما لا يدرك مداه ونعيمه في بيع خلاق الدنيا بخلاق الآخرة نشأ ورع المتورعين؛ فاستراحت قلوبهم بالزهد، وانكفؤوا بالورع عن الكد، وتفرغت قلوبهم وأعمالهم لبذل الجد في سبيل الحمد، وتميز الشقي من السعيد بالرغبة فيه أو عنه، فمن رغب في الحلال شقي ومن رغب عنه سعد؛ وهو الحرف الذي قبض بسطه حرف النهي حتى لم يبق لابن آدم حظ فيما زاد على جلف الطعام وهي كسرة وثوب يستره وبيت يكنه، وما زاد عليه متجر إن أنفقه ربحه وقدم عليه وإن ادخره خسره وندم عليه؛ ولذلك لم يأذن الله سبحانه وتعالى لأحد في أكله حتى يتصف بالطيب للناس الذين هم أدنى المخاطبين بانسلاخ أكثرهم من العقل والشكر والإيمان {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} [البقرة: 168] ومحا اسمه عن الذين آمنوا وهم الذين لا يثبتون ولا يدومون على خير أحوالهم بل يخلصون وذلك في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 172] وهو ما طيبه حرف النهي علماً، وبرئ من حوادّ القلوب طمأنينة، وتمم وأنهى صفوة للمرسلين فقال {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} [المؤمنون: 51] وورد جواباً لسؤالهم في قوله تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات} [المائدة: 4]؛ فمن آثر حرف النهي على حرف الحلال فقد تزكى واتبع الأحسن وصح هداه وصفا لبّه ومن آثر حرف الحلال على حرف النهي فقد تدسّى وحرم هدى الكتب وعلم الحكمة ومزيد التأبيد بما فاته من التزكية وتورط فيه من التدسية والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ثم قال فيما به تحصل قراءته: اعلم أن الإنسان لما كان جامعاً كان بكل شيء منتفعاً أما في حال السعة فمع استثناء أشياء يسيرة مما يضره من جهة نفسه أو غيره أو ربه على ما ذكر في الفصل الأول أي حرف الحرام {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29] {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً} [الأنعام: 145] الآية: وأما في حال الضرورة فبغير استثناء البتة {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} [البقرة: 173]؛ {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} [المائدة: 3]؛ والذي تحصل به قراءة هذا الحرف أما من جهة القلب فمعرفة حكمة الله في المتناول من مخلوقاته ومعرفة أخص منافعها مما خلقه، ليكون غذاء في سعة أو ضرورة وإداماً أو فاكهة أو دواء كذلك؛ ومعرفة موازنة ما بين الانتفاع بالشيء ومضرته واستعماله على حكم الأغلب من منفعته، أو اجتنابه على حكم الأغلب من مضرته {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219] وذلك مدرك عن الله سبحانه وتعالى باعتبار العقل وإدراك الحس في مخلوقاته كما أدركه الحنيفيون، كان الصديق رضي الله تعالى عنه قد حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وكان إذا أخذ عليه في ذلك يقول: والله لو أصبت شيئاً أشتريه بمالي كله يزيد في عقلي لفعلت فكيف أشتري بمالي شيئاً ينقص من عقلي! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما ينبه على حكمة الله سبحانه وتعالى في الأشياء التي بها تتناول أو تجتنب عملاً بقوله تعالى: {يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} [آل عمران: 164] فقال لطلحة رضي الله تعالى عنه وقد ناوله سفرجلة «تذهب بطخاء الفؤاد» وقال لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه وهو رمد في خبز الشعير والسلق: «كل من هذا فإنه أوفق لك» وقال في التمر والقثاء: «حر هذا يكسر برد هذا» وقال لرمد: «أتأكل التمر وأنت رمد» وقال لعائشة رضي الله تعالى عنها في الماء المشمس: «لا تفعلي يا حميراء! فإنه يولد البرص» وقال: «استاكوا بكل عود ما خلا الآس والرمان فإنهما يهيجان عرق الجذام» وقال لامرأة استطلقت بالشُّبْرُم: «حار جار، ألا استطلقت بالسنا؟ فإنه لو كان شيء يذهب الداء لأذهبه السنا» إلى غير ذلك مما إذا أباحه أو حظره نبه على حكمته. وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول للمريض: اصنعوا له خزيرة فإنها مَجَمّة لفؤاد المريض وتذهب بعض الحزن. ومثل ذلك كثير من كلام العلماء رضي الله تعالى عنهم ومجربات الحكماء ومعارف الحكماء الحنفاء، قال الشافعي رحمه الله تعالى في قوله سبحانه وتعالى {يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157] الطيبات ما استطابته نفوس العرب، والخبائث ما استخبثته نفوس العرب؛ هذا من جهة القلب وأما من جهة النفس فسخاؤها بما يقع فيه الاشتراك من المنتفعات المحللات، لأن الشحّ بالحلال عن مستحقه محظر له على المختص به الضيافة على أهل الوبر {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} [النساء: 8] {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} [الروم: 38] {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} [الحج: 36] وكذلك صبرها عما تشتهيه من المضرات من الوجوه المذكورة {إنما الخمر والميسر} [المائدة: 90] إلى قوله: {لعلكم تفلحون} {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2] {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9 والتغابن: 16] وكذلك التراضي وطيب النفس فيما يقع فيه الاشتراك {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29] {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء: 4] هذه الشروط الثلاثة من السخاء والصبر والتراضي في النفس، وأما في العمل وتناول اليد فأول ذلك ذكر الله والتسمية عند كل متناول، لأن كل شيء لله فما تنوول باسمه أخذ بإذنه وما تنوول بغير اسمه أخذ تلصصاً على غير وجهه وشارك الشيطان في تناوله فتبعه المتناول معه في خطواته وشاركهم في الأموال والأولاد؛ جاء أعرابي وصبي ليأكلا طعاماً بين أيدي النبي صلى الله عليه وسلم بغير تسمية فأخذ بأيديهما وقال «إن الشيطان جاء ليستحل بهما هذا الطعام، والذي نفسي بيده! إن يده في يدي مع أيديهما» فسمى النبي صلى الله عليه وسلم وأكل ثم أطلقها وقال: «كلا باسم الله» وقال لغلام آكل: «يا غلام! سمّ الله» والثاني التناول باليمين، لأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، واليمين خادم ما علا من الجسد والشمال خادم ما سفل منه. والثالث أن يتناول تناول تقنّع وترفع عن تناول النهبة «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاثة أصابع» «ويشرب مصّاً في ثلاث» وقال: «هو أبرأ وأمرأ وأهنأ» وقال: «الكُباد من العبّ» والرابع الاكتفاء بما دون الشبع لما في ذلك من حسن اغتذاء البدن وحفظ الحواس الظاهرة والباطنة؛ ومن علامات الساعة ظهور السمن عن الأكل في الرجال؛ و«ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن» و«ما دخلت الحكمة معدة ملئت طعاماً» و«المؤمن يأكل في معّى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» لتوكل المؤمن في قوامه ولا تكال الكافر على الغذاء في قوته: «وحسب المؤمن لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولا بد فاعلاً فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس» انتهى. قلت: ولعل المراد أن الكافر يأكل شبعاً فيأكل ملأ بطنه لأن الأمعاء كما قالوا سبعة، والمؤمن يأكل تقوتاً فيأكل في معّى واحد وهو سبع بطنه، فإن لم يكن ففي معاءين وشيء وهو الثلث- والله سبحانه وتعالى أعلم. قال الحرالي: والخامس حمد الله تعالى في الختام، لأن من لم يحمد الله في الختام كفر بنعمته. ومن حمد غير الله آمن بطاغوته؛ فبهذه الأمور معرفة في القلب وحالاً في النفس وآداباً في العمل تصح قراءة حرف الحلال ويحصل خير الدنيا ويتمدد الأساس لبناء خير الآخرة، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق- انتهى.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12